القرآن الكريم - الرئيسية -الناشر -دستور المنتدى -صبر للدراسات -المنتديات -صبر-صبرفي اليوتيوب -سجل الزوار -من نحن - الاتصال بنا -دليل المواقع -
الأزمة اليمنية في منظور العلاقة بين ثوابت الحق ومتغيرات السياسة صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
عام - دراسات وبحوث
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS   
الأحد, 27 أغسطس 2006 03:30
27/08/2006م
«الأيام» صالح طاهر سعيد:
يتساءل المرء هل يبرر معطى الزمن الحالي كل ذلك الذي يجري في المشهد السياسي اليمني وفي بلاد يقال إن جذورها ضاربة في أعماق الحضارة الإنسانية؟
يا ترى عزيزي القارئ هل نعي ما نفعله أم أن ما يجري من أفعال يعلن القائمون عليها بأنها تعبر عن آرائنا نحن جمهرة البسطاء، وذلك بالتأكيد لا يمت للحقيقة بصلة؟. إن ذلك استهتار وسخرية بعقول الناس وتزييف للرأي العام الداخلي والخارجي. أما آن الأوان لنا أن نضع مساراتنا على السكة السوية؟ لنتمكن من الحركة المتناغمة مع روح العصر ومتطلباته أسوة بالأمم الأخرى التي لا تتميز عنا بشيء من حيث توفر مقومات التطور إن لم تكن وفرتها لدينا تفوق ما يتوفر عند بعض الأمم الأخرى. الكل هنا يقر بصعوبة مثل هذا التحول لأن انظمتنا هي المشكلة، هي الأزمة، والقائمون عليها هم من أرادوا لنا أن نكون على هذا النحو الذي نحن عليه اليوم ويدفعوننا شيئاً فشيئاً إلى التنافس مع الشعوب الأخرى، ولكنه تنافس على المقعد الأخير من حيث مؤشرات التطور والتنمية والأمن والمعرفة. وهو بالتأكيد تنافس غريب وبالاتجاه المعاكس لحركة التاريخ، ومع كل ذلك نصر - أو أنهم يروجون باسمنا أننا مصرون - على بقاء الأنظمة وزعاماتها التي هي أساس المشكلة، انظمة الأزمة التي بينت التجربة هشاشة الجبروت الذي يستعرضه القائمون عليها أمامنا وبصورة يومية على شاشات التلفزة، والذي سرعان ما ينهار أمام أبسط التحديات الخارجية.

هل هي أزمة السياسة أم سياسة الأزمة؟ لماذا نربط البلاد ومستقبلها بأشخاص هم بطبيعتهم فانون، لماذا نفصّل أنظمتنا السياسية ودساتيرها على الأفراد وليس على البلاد؟ هل نعلم أن للأشياء والظواهر ومن بينها الظاهرة الاجتماعية والسياسية جوانب ثابتة وأخرى متحركة، وأن الجوانب المتحركة ينبغي أن تكون تابعة لثوابت الأشياء، ومتناغمة معها ومعبرة عن روحها؟. فالثابت في الظاهرة السياسية هو الحق والمتحرك هنا هو العلاقة بالحق، وهي هنا السياسة والمشتغلون بها. الثابت هو الأرض والإنسان ليس بصفته الفردية، فهي متغيرة وفانية، ولكن الإنسان المعبر عنه في التكوينات الاجتماعية التي تتألف منها أي دولة، فالحق هنا هو حاصل اندماج التحديدات المكانية (الأرض) بالكتل السكانية المنتشرة على كل جزء من أجزاء الدولة (الأقاليم). فهذه الكتل السكانية بما تمتلكه من أراض بحدود جغرافية معروفة تحدد انتماءها لها منذ آلاف السنين، هذه الكتل مندمجة بأراضيها هي بالضبط ما نسميها بأطراف الحق داخل الدولة، فهم أصحاب السيادة ويمثلون لحظة الثبات في الظاهرة السياسية، أما السياسة والسلطة المنبثقة عنها فهي تابعة لأصحاب الحق وتتحدث بما يتفق مع مصالحهم. وما الأشخاص الذين يمارسون وظيفة السلطة سوى وكلاء يمارسون مهامهم وفق اختصاصات وصلاحيات محددة لهم سلفاً، وإن خرجوا عن ذلك أو تعثرت أعمالهم لأي سبب كان فلأصحاب الحق والسيادة، حق إزاحتهم واستبدال آخرين بهم. وهذا طبيعي فالسياسة والمشتغلون بها يمثلون لحظة الحركة والتغيير في الظاهرة السياسية.

أما ما نراه حاصلا اليوم فهو وضع مشوه وغير طبيعي لا تقبل به قواعد العقل والمنطق، فقد حل المتغير محل الثابت، وحل الوكيل محل المالك ويجرى الإخضاع التعسفي لثوابت الأشياء لخدمة جوانبها المتحركة، وهو أمر مخالف لقوانين العقل، وهنا يكمن سبب اضطراب وعدم استقرار أوضاعنا الاجتماعية والسياسية. فهذا ما نفعله بالضبط عندما نربط البلاد ومصيرها بوجود اشخاص بعينهم.. هذا الشكل من أشكال ممارسة السياسة هو مصدر لكل أزمات البلاد.. فهو يعني أن موت الزعيم فراغ وأزمة، تدهور صحته أزمة، تقلب مزاجه أزمة، تغير تفكيره أزمة.. فهو الدولة وهو الدستور وهو القانون، مما يعني أن تدهوره الشخصي هو تدهور للدولة، تدهور للدستور وانهيار للقانون.

والبحث عن الحل يبدأ بتحديد من التابع ومن المتبوع، من صاحب الحق والسيادة ومن الوكيل الذي يحصل على تفويض مؤقتاً لتسيير شؤون أصحاب الحق دون أن يسمح له ذلك بالحلول محل المالك، وهذا للأسف هو الوضع القائم اليوم في بلادنا. فحال البلاد اليوم يشير إلى وجود أزمة مزدوجة شملت ثوابت ومتغيرات السياسة على السواء، شملت الحق والعلاقة بالحق، المجتمع والسلطة والمعارضة. وأزمة الحق ليست في الحق ذاته بل أزمة وعي الناس بالحق وبعلاقاتهم الحقوقية وبالتالي تخبطهم في تعاملهم مع بعضهم بعضاً ومع المعطى السياسي الذي ينبغي ألا يتجاوز حراكه حدود الحق. هذا الوضع سمح للسلطة (الوكيل) أن تجيّر الحق وقرارات الحل والعقد لصالحها وحلت محل السيد المالك (الشعب) بدلاً من أن تؤدي دورها بصفتها وكيلاً ليس إلا، وفي ذلك تكمن جذور وأسباب الاستبداد والقمع الذي تمارسه أنظمة الحكم في العالم العربي.

ومن واقع المشهد السياسي اليمني ومعطياته يظهر جلياً أن السياسة قد تاهت في التفريعات وتركت الأصول، تركت المجتمع ومكوناته، تركت الحق وأصحاب الحق.. وسار الحوار والجدل والصراع بين السلطة وأحزاب المعارضة، وحصروا الحق بهم وفرضوا انفسهم وكلاء غير مفوضين لأنه لا يوجد في برامجهم ما يشير إلى أن أياً منهم يمثل أطراف الحق، لأنهم لا يعترفون بمكونات الواقع ويرون أطراف الحق ليسوا بمكونات الدولة، بل في المعارضة والسلطة وهو فهم قاصر يفصل المجتمع عن السياسة، حتى وإن ذهب البعض منهم وهم أفراد وليسوا أحزاباً لإطلاق المبادرات السياسية التي جعلت هي الأخرى السياسة منطلقاً لها وليس الحق، رغم أهميتها لأنها تعترف بوجود أزمة وتسعى للوصول إلى حل. ولكن الشيء الذي ينبغي فهمه أن الواقع مفصل ومحددات الحق فيه واضحة وأنه من غير الممكن أن يفصل له ثوب ليس ثوبه، فحقائق الواقع التاريخية والجغرافية والاجتماعية هي المقاسات التي ينبغي أن تفصل عليها المبادرات السياسية، وعلى ذلك فإن أي نشاط أو فعل سياسي يتم بمعزل عن الواقع الذي يتعامل معه ولا يجسد حقائقه فهو ليس إلا إعادة إنتاج مستمر لأزماته سواء أجريت انتخابات رئاسية أو برلمانية أو محلية أم لم تُجر.

وإذا حاولنا تلمس الحل للأزمة اليمنية من واقع التجربة التاريخية للمجتمع الإنساني فهي تبين لنا أن عمليات التوحد السياسي تمر بمراحل عدة ولها أشكال مختلفة بحسب طبيعة وخصائص هذه المجتمعات أو تلك.

في الأصل - وهذا هو الثابت - تشكلت مجتمعات الحق الطبيعي، وهي تكوينات اجتماعية كبيرة تجاوزت القبيلة والاتحادات القبلية ولكنها لم تبلغ الدولة.. تكوينات لها حدود جغرافية معروفة، مما يعني أنها مجتمعات اقتسام الحق بالارض بين المجتمعات البشرية، وباندماج التكوينات الاجتماعية بالأرض والحدود والمكانية التي يسيطرون عليها تشكلت الهويات على أساس الانتماء للمكان بدلاً عن رابطة الدم التي كان يقوم عليها النظام القبلي القديم، الذي لم يبق منه إلا الدلالة الاسمية التي تدل على كنية الشخص في السياق التعارفي بين الناس، ولا يترتب على ذلك أي دلالات حقوقية، حيث انتقلت الدلالات الحقوقية إلى مجتمعات الحق الطبيعي القائمة على رابطة المكان، وهي ما عرفت في التاريخ باسم مجتمعات الحضارات الزراعية، وهي في واقعنا اليمني أخذت مسمى ممالك الحضارة العربية الجنوبية (سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت أو أوسان).

هنا الحق صار متعينا ومحددا بين البشر وبحدود جغرافية واضحة، وبعد تحديد الحق ومكوناته تأتي السياسة والتكوينات السياسية (الدول)، والسياسة وعمليات التوحد السياسي بين مكونات الحق الطبيعي لا تضيف شيئاً إلى التكوين الحقوقي، فهي ليست أرضا ولا بشرا وإنما هي علاقة بالبشر وحقوقهم بالأرض ولا تملك أي حق في تعديل التوزيع الحقوقي بين المجتمعات، فالحق هنا أصبح ثابتاً، ويبقى أمام السياسة بوصفها علاقة: هل تقوم على إدراك الحق والاعتراف به وبالتالي تصميم نظامها السياسي والإداري بصورة متناغمة مع الحق وبآليات تجسد في فعلها معطيات الحق القائمة أم العكس؟ إن كان نعم ستكون الدولة ديمقراطية وتجسد مصالح شعبها، وإن كان لا ستكون الدولة استبدادية تعسفية قمعية تفتقد كل أسباب الشرعية.

وبحسب عدد تكوينات مجتمعات الحق الطبيعي التي تدخل في إطار الاتحاد السياسي يتحدد شكل الدولة وطبيعة نظامها السياسي.. إن كانت الوحدة السياسية لا تضم إلا مجتمعا واحدا من مجتمعات الحق الطبيعي، فالدولة هنا تكون دولة بسيطة وتقوم ايضاً على الديمقراطية البسيطة، المرتبطة بالبعد الكمي العددي. ففي هذا النموذج البسيط نجد البعدين الكمي والنوعي (الأفراد وتكوينهم الاجتماعي) مندمجين في مفهوم واحد، بمعنى أن كل العدد مؤطر في تكوين اجتماعي واحد، وبالتالي التمثيل يكون متساويا بين أفراد المجتمع لأنهم ينتمون إلى بناء اجتماعي واحد.

وهناك الكيانات السياسية المركبة التي يقوم اتحادها السياسي على عدد من مجتمعات الحق الطبيعي. هذا النوع من الدول يدخل في مصنف الدول المركبة ويقوم نظامها السياسي على فكرة الديمقراطية المركبة. بمعنى أنها تأخذ البعد الكمي العددي على صعيد الأجزاء (الأقاليم) وتأخذ البعدين معاً الكمي والنوعي على صعيد المؤسسات الاتحادية ومن هنا فكرة المجلسين في بلدان الديمقراطية المتقدمة: مجلس للتمثيل العددي للأقاليم (النواب) ومجلس آخر يتم التمثيل فيه على أساس نوعي ومتساو بين مكونات الدولة بصرف النظر عن تباين الأعداد التي تتألف منها هذه المكونات، وهو مجلس يعنى بالتوازن والوحدة الوطنية للدولة.

أما النوع الثالث فهو الكيانات السياسية المعقدة أو الأكثر تركيباً، وهي الاتحادات السياسية بين الدول.. هذه تركيبة سياسية معقدة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الحلقات الثلاث:1) مجتعات الحق الطبيعي،2) الاتحاد السياسي الأول (الدولة)، 3) الاتحاد السياسي الثاني (الاتحاد بين الدول).

فما هو حالنا نحن في اليمن من بين هذه الحالات؟ المتخصصون في الدراسات التاريخية المرتبطة بالتطور الاجتماعي والسياسي لمنطقة جنوب الجزيرة العربية (اليمن) يقرون بأن تاريخ التطور الطبيعي لمجتمعات هذه المنطقة قد أفضى إلى تشكل أربعة تكوينات اجتماعية كبرى هي ممالك الحضارة العربية الجنوبية (حضرموت وأوسان وسبأ وذو ريدان)، وهو أمر بينته النقوش الأثرية القديمة أبرزها ما ظهر في النقوش التي تشير إلى اللقب الملكي لملوك حمير حين أطلقوا على أنفسهم لقب (ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت) علماً أن تسمية (يمنت) حلت محل تسمية (أوسان) وهي في معناها اللغوي تعني الجنوب وشملت جغرافياً المحافظات المعروفة اليوم: عدن، لحج (طبعاً قبل التعديل الذي أجري عليها) أبين، وشبوة. هذه التكوينات (الممالك الأربع) تمثل الحلقة الأولى في السياق التطوري لتشكل المجتمعات في هذه المنطقة .. مجتمعات الحق الطبيعي.

هذا التوزع الحقوقي كانت له اليد الطولى في رسم مسارات التطور السياسي اللاحق لهذه المجتمعات، ففي العصر الإسلامي مثلاً جرى التعامل مع هذه الرباعية، حيث كانت صنعاء والجند وعدن وحضرموت أقاليم للدولة الإسلامية وحتى الاحتلال الاجنبي لم يجرؤ على تجاوز هذه الحقيقة، فقد اعتمد الأتراك عند احتلالهم للشمال تقسيمها إلى اقليمين: اقليم السهول وإقليم الجبال، ولم تبعد بريطانيا عن الاعتراف بهذا الواقع التاريخي حين اعتمدت تقسيم الجنوب إلى محميتين: محمية عدن الغربية ومحمية عدن الشرقية. ثم كان قيام اتحاد الجنوب العربي على أراضي محمية عدن الغربية، ومشروع قيام اتحاد مماثل على أراضي محمية عدن الشرقية، على أمل أن تتواصل العملية ليتحد الاتحادان في دولة اتحادية واحدة. وبعد خروج الاحتلال البريطاني قامت الدولة الواحدة على أراضي الجنوب كله، وقبل ذلك كانت قد قامت دولة واحدة على أراضي الشمال كله بعد خروج الاحتلال التركي.

إلا أنه وانسجاماً مع الحقائق التي اسلفنا ذكرها كان يجب أن تقوم دولتان مركبتان في كل من الشمال والجنوب باعتبار أن كلاً منهما تضم في تكوينها أكثر من مكون من مجتمعات الحق الطبيعي.. مركب دولة الشمال كان ينبغي أن يقوم على الثنائية الحقوقية (صنعاء وتعز). وكذلك دولة الجنوب هي الأخرى كان عليها أن تبني ذاتها على أساس الثنائية الحقوقية (عدن وحضرموت).

الا أن ذلك لم يُراعَ حينها وقامت الدولتان على أسس غير ديمقراطية. وهذا الواقع، واقع غياب الديمقراطية لم يكن محصوراً على دولتي اليمن لوحدها، بل كانت مشكلة عامة تكاد تكون سمة مشتركة لكل الدول في العالم العربي. ومع ذلك فهما دولتان امتلكتا كامل الحقوق والمشروعية الدولية المعترف بها في كل الهيئات والمؤسسات الدولية والإقليمية ومن قبل كل دول العالم كلاً على حدة. بذلك الإنجاز كانت هذه المجتمعات قد حققت ما يمكن أن نسميه انجاز المرحلة الأولى في مسار التوحد السياسي، وهي بذلك تكون قد أصبحت على نفس مستوى البناء السياسي العام للبلدان العربية الذي كانت ثمرته قيام الدولة الوطنية في جميع الأقطار العربية، وهي جميعها تحاول منذ زمن أن تقيم أي شكل للتقارب والتعاون يؤسس لنظام اقليمي يتدرج حتى يصل إلى مستوى الاتحاد السياسي. وهذه المحاولات كلها تأتي في مصنف المرحلة الثانية في المسار التطوري لعمليات التوحد السياسي الذي يراد له أن يتمخض عنه اتحاد دول يقل عددها أو يكثر.

في هذا المصنف بالضبط يدخل النموذج اليمني في التوحد حيث ينبغي النظر اليه بأنه جاء خطوة استباقية تؤسس لاتحاد اقليمي أوسع، مما يعني أن الخطوة اليمنية كانت اتحاد دول وينبغي التعامل معها ومع أزماتها على هذا النحو. وتدخل في التصنيف العلمي ضمن الاتحادات السياسية المعقدة أو الأكثر تركيباً، فهو اتحاد يضم الثلاث الحلقات: حلقة مجتمعات الحق الطبيعي (صنعاء، تعز، عدن، حضرموت) ثم حلقة الدولتين المركبة ثنائية التكوين الحقوقي في كل من الشمال والجنوب، وأخيراً حلقة اتحاد الدولتين. وإذا أردنا أن نجعل من النموذج اليمني عاملاً محفزاً لمشروع اتحادي اقليمي أوسع ويكون مقدمة له علينا إعادة بناء الاتحاد السياسي والدولة الاتحادية اليمنية ونظامها السياسي بما يستوعب في مضمونه الحلقات الثلاث. ما لم فالخيارات والسيناريوهات المحتملة كثيرة. ونأمل أمام كل هذا أنا تكون الحاكمية للعقل.
آخر تحديث الأحد, 27 أغسطس 2006 03:30