ميلاد عبقري جديد - بقلم- جــودت هوشيار |
مقالات - صفحة الدكتور / جــودت هوشيار |
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS |
الأربعاء, 16 مارس 2016 06:49 |
تقديم : أندريه موروا ( 1885-1967) كاتب فرنسي ، متعدد المواهب والأهتمامات ، غزير الأنتاج ، فقد أخرج خلال حياته الأبداعية ما يقرب من (200) كتاب ، بين رواية، ومجموعة قصصية ، وسيرة ذاتية ، وبحث تأريخي . وقد ذاعت شهرته عندما نشر روايته الأولى " صمت الكولونيل برامل " (1917) والتي ترجمت في السنة ذاتها الى اللغة الأنجليزية في انجلترا وأميركا . وطرحت روايته الثانية " أجواء " ( 1928) وجهتي نظر المرأة والرجل في العلاقة الزوجية. ومن رواياته الأخرى «الحلقة العائلية " ( 1932) ، وغريزة السعادة " (1934) ، و"حالة لقراءة الأفكار " ( 1937) وغيرها كثير . ورغم القيمة الفنية العالية لهذه الروايات ، واسلوب موروا الجذاب ، الا أن مكانته الأدبية ترسخت كثيرا عندما كتب سلسلة روايات عن السير الذاتية لمشاهير المؤلفين الفرنسيين والإنجليز ، شملت تراجم شيلي ، و?ولتير، وشاتوبريان ، وبايرون ، وجورج صاند ، و?كتور هوگو ، وبلزاك ، وبروست ، وغيرهم. كما أن له مؤلفات تاريخية، لاقت رواجاً كبيرًا . انتخب موروا عام 1937 عضوا في الأكاديمية الفرنسية .. كان موروا يتمتع بحسّ مرهف؛ ومن ثمّ لجأ إلى أسلوب فكاهي يخفف من وطأة الحقيقة المرة التي أراد قولها . وهذه القصة التي نقدمها اليوم ،تهكم ذكي وسخرية لاذعة من أدعياء الفن ، الباحثين عن الشهرة عن طرق تقليعات وصرعات ( الحداثة ) المزيفة التي يلجأ اليها من يفتقر الى الموهبة الحقيقية ويطبل لها مرتزقة النقد التشكيلي وتجاره والأعلام المضلل ، وأصحاب قاعات العرض . موروا يدين هنا ، ظاهرة تحويل الفن الى سلعة في السوق. والغريب في الأمر ان الفنان بيير دوش الذي وافق متردداً على القيام بدور هزلي من اجل الشهرة ، يندمج تدريجيا في هذا الدور - الذي رسمه له صديقه الكاتب للسخرية من (الحداثة ) الشكلية الفارغة - ، ويخيل اليه ،أن لوحاته ذات قيمة فنية حقاً وأنه فنان عبقري . لا اريد أن أضيّع على القاريء الكريم متعة قراءة القصة هذه القصة الجميلة الساخرة ، التي حاولت عند ترجمتها الحفاظ على روح النص الأصلي وايقاعه . القصة : حين دخل الكاتب بول أميل غليز الى المرسم ، كان الفنان پيير دوش قد أنتهى لتوه من أنجاز لوحته الفنية الجديدة التي كانت تمثل منظرا طبيعيا في مقدمته باقة ورد في أنية زهور، وباذنجان في صحن . وقف الكاتب للحظات يرقب صديقه ،الذي كان منهمكا في العمل، ثم قال في نبرة قاطعة : توقف الفنان عن النظر - ولكن لماذا ؟ - تساءل بيير الطيب البسيط وهو يتنهد- أنا أرسم ما أراه ، وأحاول التعبير عما أشعر به. أجاب بيير دوش : بالعمل ، والصدق الفني في لوحاتي . – - لا تكن طفلا يا بيير , أن الوسيلة الوحيدة لهز مشاعر الحمقى هي أن تقوم بشيء هائل ... قل أنك ستسافر الى القطب الشمالي , أخرج الى الشارع بالبرنس والطربوش ، أعلن نفسك رائدا لمدرسة فنية جديدة ، اصرخ دفعة واحدة بحفنة من الكلمات والمصطلحات المختلفة : أكستير يوريزم ، الدينامية ، اللاوعي ،التجريد. أكتب عدة بيانات،أعلن أنك ترفض هذا الشيء أو ذاك : الحركة أو السكون ،اللون الابيض أو الاسود ، المربع أو الدائرة . أخترع الرسم الجديد الجبار الذي لا يعترف سوى باللونين الاحمر والاصفر ، أو الرسم الاسطواني ، أو ألرسم المجسم المتعدد الاسطح , أو الرسم ذا الابعاد الاربعة. وفي هذه اللحظة هب غبير زكي ناعم ينبيء بقدوم السيدة كوسنيفسكايا –الحسناء البولونية المغرية ، التي كان بيير دوش مفتوناً بعينيها البنفسجيتين . كانت السيدة كوسنيفسكايا , مشتركة في أغلى المجلات الفنية التي تعنى بنشر الصور الباذخة لروائع فنية مستنسخة من قبل رساميين ناشئين لا تزيد أعمارهم المهنية عن ثلاث سنوات , ولم يرد أسم دوش النبيل في تلك المجلات ولا مرة واحدة ، لذا كانت السيدة كوسنيفسيكايا تستخف بأعمال دوش . أرتمت الضيفة على الاريكة وألقت نظرة خاطفة على اللوحة التي كان دوش قد شرع بالعمل فيها , وهزت خصلات شعرها الذهبي بضجر. - كنت أمس في معرض ( الفن الزنجي في العصر الذهبي ) - قالت ذلك بصوتها الرخيم وهي تمطط كلمة الزنجي – يا لها من قوة تعبيرية هائلة ... يا له من فن رفيع أشار دوش الى عمله الجديد ( البورتريه ) الذي كان راضيا عنها , فقالت على مضض : - - لطيف جداً قذف الفنان لوحة الالوان الى الزاوية وتهالك على الاريكة في يأس: - كلا ! من الأفضل للمرء أن يعمل وكيلاً لشركة تأمين ، أو موظفاً في أحد البنوك ، أو مفتشاً في البوليس ... أما الرسم ، فهذا آخر شيء يمكن أن يفكر فيه الأنسان . الحرفيون هم وحدهم الذين يفرحهم أعجاب الجهلاء بنتاجاتهم , والنقاد لا يحترمون الموهوبين ، بل الجهلاء.. ينبغي وضع حد لكل هذا !. كان الكاتب بول - أميل يصغي طوال الوقت الى صديقه، ثم أطرق مفكرا وهو يدخن سيجارته , وأخيرا سأل صديقه الفنان : : - قل لي من فضلك:هل تستطيع أن تصرح بلهجة جادة للسيدة كوسنيقسكايا ولبعض الاشخاص الاخرين، أنك مشغول منذ عشر سنوات بالبحث عن أسلوب إبداعي جديد ؟ .. ؟ أنا - - أجل أنت .. أصغ ! . سأخبر بذلك بعضا من "المختارين" . كل ما تحتاج اليه هو عدة مقالات في مجلات معينة تعلن عن انشغالك بإنشاء المدرسة الايدو – تحليلية في الفن، لأن كافة رسامي ( البورتريه) السابقين كانوا يركزون عن جهل على دراسة الوجه الانساني .وهذا محض هراء ! لأن تصوير الانسان على نحو صادق يكون عن طريق رسم ما نتصوره عنه .. فعلى سبيل المثال يكون بورتريه كولونيل ما : عبارة عن خلفية زرقاء - ذهبية تقطعها خمسة أشرطة كبيرة ، وثمة جواد في أحدى زوايا اللوحة وفي الاخرى عدة صلبان. أما بورتريه رجل الصناعة , فأنه ينبغي أن يتكون من مدخنة وقبضة مشدودة تستند الى الطاولة. أتدري يابيير دوش ،ما الذي يمكنك أن تقدمه للعالم ؟ بوسعك أن تنجز عشرين لوحة أيديو – تحليلية في شهر واحد ؟
قال الفنان ذلك وهو يبتسم في حزن ! . - بل وحتى في ساعة واحدة ! قال الفنان ذلك وهو يبتسم في حزن ، ثم أردف قائلاً : - ولكن ما يحزنني حقا ياغليز , هو أن كل شيء كان سيتغير لو كنت أنساناً أخر - هل نجرب ؟ !لست أستاذا في الثرثرة - - اذن ما عليك - حين يطلب منك تقديم بعض الإيضاحات – الا أن تصمت برهة ، ثم اشعل غليونك ، واسحب منه نفساً وانفخه في وجه محدثك، وقل له بكل بساطة العبارة التالية : " هل شاهدت يوما كيف يجري النهر ؟ - - وماذا يعني ذلك ؟ لا شيء... لا شيء البته . ولهذا فأن الكل سيظن ان ثمة شيئاً ما ، وعندما سيكتشفونك ، ويفسرون أعمالك ويرفعونك الى العلا ، ستقص عليهم هذه الحكاية وتسخر منهم . بعد مضي شهرين تم افتتاح معرض نتاجات بيير دوش , وأصاب نجاحا هائلا .. وكانت السيدة كوسنيفسكايا الرائعة ، المتدفقة الحيوية ، الصاخبة العبقة ، لا تتخلف خطوة واحدة عن صديقها العبقري الجديد بيير.وكانت طوال الوقت تردد : - أه .. ياله من تعبير ، يالها من قوة ، يالها من دقة . كيف أستطعت ياعزيزي أن تتوصل الى هذا التركيب ؟ صمت الفنان برهة وأشعل غليونه ونفث موجة كبيرة من الدخان وقال : - هل شاهدت يوما كيف يجري النهر ؟ أرتعشت شفاه السيدة كوسنيفسكايا الرائعة ، وكان فيها وعد بالأفراح المغردة الجامحة. وفي ركن من صالة العرض وقف شاب أنيق ، يرتدي معطفا ذا ياقة من الفرو - هو السيد سترونسكي , يخطب في الجمهور : - لابد أن ثمة شيئا ما هنا ، شيئا قويا جدا. ! قل لي يابيير دوش , كيف توصلت الى ذلك ..؟ وما الذي كان بمثابة حافز بالنسبة لك ؟ مقالاتي ؟ تريث بيير دوش في الاجابة ، ثم نفخ الدخان في وجه محدثه مزهوا وقال : - هل شاهدت ياعزيزي يوما ، كيف يجري النهر ؟ صاح سترونسكي - - رائع ... رائع وبسيط . وفي هذه الاثناء كان تاجر لوحات يتجول في أنحاء المعرض , ثم اقترب من الفنان وأمسك بذراعه وأنتحى به جانبا وقال له : صديقي العزيز أنت أنسان ماكر , وهذا الشيء يمكن أستغلاله.سأشتري منك جميع اللوحات المعروضة وخمسين لوحة كل عام , فما رأيك ؟ صمت دوش وأخذ يدخن وقد أرتسم على وجهه تعبير مبهم. وبدأ الجمهور يغادر القاعة تدريجيا ، وعندما أغلق بول أميل غليز الباب وراء أخر زائر ، كانت صيحات الاعجاب ما تزال تأتي من السلم ، متباعدة ولم يبق في القاعة سوى الكاتب والرسام. قال الكاتب في فرح غامر : ما رأيك الان أيها العجوز ؟ لكم كنا ماهرين في تدبير هذا الامر. أسمعت ما قاله ذلك الشاب الانيق وما قالته كوسنيفسكايا والفتيات الثلاث ( المصبوغات اللواتي كن يردددن دونما انقطاع . ياللجدة , ياللجدة , ياللجدة ! أه بيير دوش .. لقد كنت دائما أظن أن الغباء الانساني لا حدود له ... ولكن هذا المعرض تجاوز كل توقعاتي . وأطلق الكاتب ضحكة مجلجلة. قطب دوش وجهه ، ولما كان غليز لا يتوقف عن الضحك فقد صرخ به: - أبله ! تساءل الكاتب في غضب : - - أنا أبله ! بعد كل ما صنعته من أجلك ؟ تطلع الفنان باعتداد الى لوحاته الايديو - تحليلية , وقال بلهجة شخص واثق من نفسه : - أجل ياغليز. أنت أبله حقيقي ... فثمة شيء ما في نتاجاتي - وحملق الكاتب في وجه الرسام مذهولا وقال له : - كلا ، هذا أكثر مما يمكنني أحتماله ، وصاح به : – تذكر يا بيير من الذي أوحى لك بالفكرة الجديدة ؟ سكت بيير برهة , ثم نفث الدخان وقال : هل شاهدت يوما كيف يجري النهر .؟ |
آخر تحديث الأربعاء, 16 مارس 2016 08:35 |