قمر واحدٌ لا يكفي - بقلم - لبنى ياسين |
ثقافة وادب - صفحة الكاتبة / لبنى ياسين |
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS |
الثلاثاء, 18 أكتوبر 2016 05:38 |
في مكان كهذا, أطرافه متخمة بأسمال موت مكابر، يغدو انكفاء المرء إلى داخله الحل الوحيد لكي يبقى متماسكاً، ولو ظاهرياً على الأقل، أنظر إلى من حولي، أستطيع أن أقرأ القلق على ملامحهم، وأن أشعر بملح الانتظار يرشح من خلاياهم، يبدون غير معنيين بأي تفصيل آخر، كأنما ما تبقى داخل القارب هو الشيء الوحيد الذي يعنيهم، وليذهب العالم برمته إلى الجحيم، حين يصبح الموت قاب شهيقين وزفير واحد تفقد التفاصيل أهميتها، تلك الفتاة التي كانت منذ أسبوعين أو أقل قليلاً تبدو في كامل أناقتها، تجلس الآن واللون الأحمر يغطي بنطالها الجينز، خريطة لمكان مجهول رسمت بالدم ما بين ساقيها حتى أسفلها، لا أحد منا يسترق النظر ولو خلسة، ولا أحد يستنكر، لم يكن هذا ليكون مقبولاً منذ أسابيع فقط، كانت لتذوب خجلاً، لكنها الآن لا تأبه لأي شيء،هذا عدا أنه ليس لديها خيار آخر، ولا بنطال غير ما ترتديه، فقد تم تجريدها من كل ما تحمل، وفازت ملابسها التي ترتديها فقط بمرافقتها في هذه الرحلة اللعينة . كذلك؟! يلح سؤال غريب علي، أتمنى لو أستطيع أن أزرعه في عيون الكون كله، في عيون السياسيين، القادة، أصحاب القرار، أصحاب الشعارات البراقة، وأصحاب القلوب المرهفة التي تسارع إلى قلب الدنيا لأجل كلب أو قطة: لو كانت هذه القوارب التي تتساوى فرص نجاتها بغرقها تحمل كلاباً وقططاً، وغرق منها ما غرق، هل كانوا ليبقوا مكتوفي الأيدي كما هم الآن؟ على الاتصال بالأشياء بطريقة سحرية غريبة، فيصبح لخاتم الزواج في إصبعي روحاً، يتعدى طبيعة الجماد، يفقد شيئيته، ويغدو خيطاً من نور يربطني بعائلة تنتظرني، يذكرني بأنه علي أن أتماسك وأنجو لأفي بوعدي لإبني وزوجتي بحياة كريمة لا تمطر فيها السماء نيراناً وموتاً. الوجوه حولي شاحبة كما الموت، أكاد أقسم أن وجهي كذلك، أستطيع أن أراه في مرايا ملامحهم المنكمشة خلف خوف صاخب لا يترك لنا مجالاً لحديث عابر، إنه يحف بنا من كل إتجاه، لا أريد حتى أن أفكر بارتفاع احتمال غرقنا جميعاً، فضلاً عن اختطافنا لصالح تجارة الأعضاء، أو البشر، أيها أسوأ مصيراً؟! لا أريد أن أعرف..أريد أن أقتلع تلك الفكرة اللعينة من رأسي نهائياً، لكنها بكل خبث تتسلل خلسة وتباغتني كلما حل الظلام خارجاً أو داخلاً، وظلام داخلي لا يكاد يفارقني. مقابلي، على الجهة الأخرى من القارب، تلك الأم التي ما زالت في ريعان الصبا، تضم طفليها، بل هي تتشبث بهما كما يتشبث الغريق بقشة، وينطق الارتياب من عينيها، تتفقد جبين أحدهما كل بضع دقائق، الطفل محموم منذ أيام، وحالته تسوء باضطراد مخيف، لم يأكل شيئاً منذ يومين، أو ربما ثلاثة، ورائحة برازه تفوح من ملابس الأم فضلاً عن ثيابه، لو كنا في مكان آخر لابتعد الجميع عنها، لكننا في قارب لا يتسع إلا لمائة شخص، حشر فيه ما يقارب ثلاثمائة، وليس لأحدنا مكان أكثر مما تجبر مساحة جسده الآخرين على التنحي، والتذمر لا يجدي نفعاً، فالأم كأي واحد منا، أُجبرت على ترك حقيبتها في السفينة السياحية التي دفع كل واحد منا ثلاثة أضعاف ما يدفعه هارب آخر لنتجنب الصعود في القارب الذي انتهينا إليه بعد أقل من ساعتين من الملاحة بعيداً عن الشاطئ، انتهينا إليه بقوة السلاح، وبالخوف الذي اعترانا عندما رفض أحدنا أن يغادر، فـُرمي به في الحال، ودون ترددٍ.. وليمة لأسماك البحر. كما قد يقول متفلسفو علم النفس.. أعود بنظري دون قصد إلى الأم المنكوبة، أتذكرها وولديها في بداية المطاف، كان طفلاها كقمرين في ليلة حالكة، في عيونهما شيءٌ ساحرٌ أكثر بكثير من براءة أطفال، وطهر ملائكة، عندما وقع نظري عليهما لمتُ نفسي لأنني لم أصطحب طفلي وزوجتي، وأثنيت سراً على شجاعة شابة تخاطر بنفسها وولديها في رحلة يخشاها الرجال. لكنه اقترب من روح الأشياء حد الإلتصاق، إنه الآن قطعة خشب فحسب، تراه يحاول أن يختلس القدرة على الطفو من الخشب، لئلا يغرق؟ أشعر بوخزة حادة في قلبي، أتخيل طفلي، لا شيء أستطيعه لأساعدها، فلأصلِّ من أجلها ومن أجل صغيرها إذن. دقائق ويعود جسم الطفل طرياً، كقطعة قماش قديمة، لا حياة فيها، تحاول أمه إيقاظه، لكنه لا يستجيب، يحاول الرجل الذي يبدو أن لديه معلومات طبية ما، لكن الطفل يخذله كما خذل أمه، يضع الرجل أصابعه على عنق الطفل، يتحسس نبضه، تعتم النظرة في عينيه، يهز رأسه بأسف معلناً انتقال الطفل إلى مكان أكثر أمناً..انتقال روحه النقية على الأقل. لكنها تصرخ في وجهه، فجأة أرى وجه طفلي، يا الله احفظ لي طفلي، واحفظ أطفالهم. وعلى محياه يبدو الرعب واضحاً. ساعتان أوربما أقل قليلاً، على اعتبار أن الزمن لا يتحرك على متن قارب نجى عندما غرق فرعون في البحر، جاء الرجل نفسه متطوعاً يحاول إقناع المرأة بالتخلي عن صغيرها ليرميه في البحر، خشية أن يبدأ بالتفسخ، فيتسبب بأمراض للركاب ناهيك عن الرائحة. إلى الله ثانية : يا رب احفظ لي طفلي، واحفظ أطفالهم. نصل إلى شواطئ إيطاليا بسلام. الأفكار تتدافع في رأسي، بينما علا شخير بعض من على القارب، والآخرون إما أنهم خلدوا لنوم صامت، أو أنهم خلدوا إلى أحلامهم ومخاوفهم. الحزن ناب أزرق ينغرس في الأفئدة والصدور، يتجه الى الشريان السباتي ليخنق أنفاسك فيما أنت تبحث عن سبب شعورك بالاختناق في كل شيء حولك،متجاهلاً عن قصد أو عن غير قصد، السبب الحقيقي القابع في أعماقك، يخادعك الحزن، يشي بنفسه من عينيك، لكن الطبيب سيصف لك دواء للضغط أو للنوم، ولن يصف لك دواء يسحق الحزن الذي يعتريك. تشكو حزنك دون أن تسميه، كما نتجنب تسمية المرض العضال باسمه، فنتركه تحت رحمة حروف الإشارة التي يدرك الجميع الى أنها تشير إلى أخبث الأمراض وأفتكها...أينك الآن يا أمي...وحدك كنت تدركين ما بي، بينما لم ندرك ونحن نرحل واحداً وراء الآخرعلى متن قوارب الموت كل الأعراض المزمنة التي جعلها الحزن ترساً اختبأ خلفه حتى قضيتِ جزعاً على أولادك قبل أن تري آخرهم -أنا - يفترش الرحيل، وعلى البيت الذي قضيت به جل عمرك، وعلى أبي الذي فتتته قذيفة حولاء أخطأت هدفها. إليها، أرجو الله ألا تكون الأم مستيقظة لتقيم الدنيا وتقعدها، فأعصابنا لم تعد صالحة لتحمل أي توتر إضافي. يبدو سيئاً كهذا. يسود الصمت المطبق إلا من أصوات ارتطام الموج بالقارب، أغلب الظن أنني سأكره البحر طويلاً بعد رحلتي هذه، ويحدوني الأمل أنني سأقوم بإجراءات لم الشمل إن وصلنا بسلامة، ولن تتعرض زوجتي وابني لركوب خطر مثل هذا، أحاول أن أصرف هواجسي السوداء بتخيل وصولهما على متن طائرة آمنة، لا تنفث الموت في وجوه ركابها، أتخيل اللحظة التي أضمهما بها إلى صدري, يعتريني بكاء حار، هل هو الحزن؟ أم الشوق؟ أم الخوف؟ أم الانتظار؟ أم الوحدة؟! ماذا يهم؟ ففي النهاية كل تلك المشاعر تتربص بي، تتقاتل على دموعي اقتتالاً شرساً، ولا أعرف من يغلب كل مرة. الصباح غمر المكان حولي ولم يغمرني، وأرى المرأة الثكلى إياها، وهي تحتضن جثة طفلها الميت ..الميت فقط دون الآخر.
|