مستنقع اليمن .. يا "خازوق" العرب التاريخي - بقلم - عبده النقيب طباعة
مقالات - صفحة /عبده النقيب
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS   
الخميس, 28 مايو 2015 21:15

 كم هو غامض للكثيرين هذا البلد المعقد والوعر الشديد التخلف,  انه اليمن الأعلى الذي مازالت تحكمه الثقافة القبلية الغريبة والصعبة على الفهم. خطأ جسيم  لمن يريد التعامل مع المسألة اليمنية ان لا يدرس بعناية التجارب المريرة للاحتلال العثماني ودعم الجيش المصري لانقلاب 26 سبتمبر 1962م ووحدة الجنوب العربي  مع اليمن. كل من يأتي الى اليمن يقع في نفس الوهدة العميقة والمستنقع التاريخي الاسن, رغم اختلاف الأزمنة والظروف الا ان القاسم المشترك للجميع هو الجهل بتعقيدات الثقافة القبلية في اليمن الأعلى. حقا ان كل من هذه الثلاثة التجارب هي ظواهر تاريخية تستحق الوقوف امامها بتأن شديد.


جاءت تركيا الى اليمن بذريعة اقامة الخلافة, وجاء جيش عبدالناصر  من اجل نصرة الثورة او الانقلاب الذي اراد انتشال هذا البلد من قاع التخلف وعصر الكهوف المظلمة الى ضفاف القرن العشرين وذهب الجنوبيون الى صنعاء بزامل " الوحدة قدر ومصير" كالفراشات التي تحوم حول النور فتحترق به.


لست من المؤيدين لخلافة الباب العالي فباسم الاسلام والدين عرف العرب اسوأ احتلال تاريخي والذي لم يكتف بالاضطهاد للشعوب العربية والنهب لخيراتها بل انه بلغ حد الاعتداء على لغة القرآن الذي يرفعونه على اسنة رماحهم و حبسوا هذه البلدان في حضائر التخلف والفرقة ولم يغادروها الا بعد تضحيات جسام لا يمكن للامة العربية نسيانها حتى وان تغنى بأمجادها ادعياء الخلافة الجدد, لكن هناك استثناء وحيد في تجربة الأتراك لا يمكن نسيانه من قبلهم  بسهولة  وهو مقبرة اليمن الأعلى.


 تركيا الامبراطورية المترامية الاطراف الاكبر في التاريخ البشري كله جثمت لقرون طويلة على صدور غالبية شعوب اسيا وافريقيا وأروبا. لكل شعب من هذه الشعوب ذكريات اليمة لا يمحوها الدهر الا تجربة تركيا في اليمن الاعلى التي تحولت الى مدفن تاريخي للأتراك انفسهم, مزقت اجسادهم القبائل الشرسة بالغدر والخديعة وذرت لحومهم على سفوح الجبال الشاهقة والوهاد السحيقة للضواري فلم يشفع للأتراك اسلامهم  ولم تجنبهم من السلخ اتفاقاتهم مع الائمة والتنازل لهم بالولاية الدينية والشرعية.


اما تجربة الجيش العروبي المصري فقد كان قدومهم لمناصرة ثورة اليمن سببا في هزيمتهم الكارثية  في حرب 1967م مع اسرائيل فخسرت  مصر من الجنود والعتاد والمال في اليمن ما يفوق كل ما خسرته في حروبها الثلاثة مع اسرائيل  والعدوان الثلاثي في 1956م  بكثير, فكان يقتل الجندي المصري بالسلاح الذي يمد به القبائل التي تقاتل في صفوف الجيش المصري بالنهار وفي الليل تتحول الى مفارز متقدمة ضد الجيش المصري يحصدونهم في ثكناتهم عبر الخديعة والمباغته.  


تجربة الجنوب العربي مع اليمن ليست نزهة تاريخية  او مجرد ذكريات احتلال تتري مغولي فقط بل انها حكاية كارثة شاملة حلت بشعب قلما حدثت في تاريخ البشرية قاطبة. وقع الجنوب ضحية لعروبته ومدنيته واحلامه القومية,  جاءه الماركسيون والقوميين اليساريين وعاثوا بالهوية الوطنية الجنوبية فسادا مبشرين بالحلم الوحدوي واليمني والعربي,  مكنهم ذلك من ذر الرماد على عيون الجنوبيين فلم يقرأوا   الدروس المستقاة من غزوات الائمة للجنوب وتجاهلوا تحذيرات الاجداد من غدر وخبث وحقد ووحشية الزيود. فما ان حط الجنوبيون الرحال في صنعاء حتى صحوا من سكرتهم  و شاهدوا رفاقهم الماركسيين ينزعون اقنعتهم  واذا بهم عكف إمامين يسلخون كل ما هو جنوبي لا فرق عندهم اكان ذلك ماركسي او يميني او قبيلي او  مناصر لهم او  حتى عبد طائع معهم. تغلبت لديهم غريزة التوحش فكل جنوبي هو وجبة شهية لهذه اللبوة الجائعة فمن السخف صد هجومها بغير الاسنة والحراب.


كم تغيب  وتتماهى لدي الصورة وانا اتفحص في هذا المجتمع والتوليفة البشرية الغريبة  لليمن الاعلى بما قرأته عن تاريخ افغانستان القديم والحاضر.. يتذكر البريطانيون بألم  دروس افغانستان  على مدى قرنين مضت  لذا كانوا اكثر حذرا في مشاركتهم في قوات التحالف الدولي التي احتلت هذا البلد الوعر والمتعرج  قبل اربعة عشر عاما  والذي عرف تاريخيا بإقليم خراسان. هذا البلد  الحبيس الذي يتوسط قلب العالم يحتضن  مليشيات طالبان والقاعدة والقبائل وإمبراطورية المخدرات الاولى في العالم. جاءته جحافل )الكاوبوي( والعم سام الجاهلون بتاريخ وثقافات الشعوب فاتحين تغشوهم نشوة القوة وزهوة الجبروت الذي اعماهم عن استيعاب  الصفعة التاريخية التي تلقاها الاتحاد السوفيتي في افغانستان  فقضي بها نحبه . وما ان دخل )الياكنيز(  حلبة خورسان حتى تناولتهم سيوف طالبان وايران وباكستان والسعودية  وروسيا  (والذي ما يشتري يتفرج) فخرجت القوات الامريكية  بعد ثلاثة عشرة عام مكللة باستسلام مهين امام مليشيات طالبان , مثخنة بالجروح الغائرة تجرجر اذيال الهزيمة,  وامبراطورية مترنحة لم تعد تفكر بإرسال قواتها حتى الى بنما.


اليمن الاعلى هي الطبعة العربية  لأفغانستان. جبال وعرة وتخلف ضارب اطنابة في اعماق التاريخ, كوارث طبيعية ادت الى قحط وحروب داخلية وثارات وغزوات فيد وسلب ونهب واضطهاد كل هذه العوامل مجتمعة خلقت ثقافة شبه بشرية متوحشة وغريبة على الفهم,  لا تستطيع التعايش مع محيطها ولامع ذاتها اوصدت امامها كل سبل العيش ما عدى الحرب والقتال كضرورة للبقاء والوجود.
لن يكون الجنوب العربي آخر الضحايا بل ان الحرب الدائرة الان بدأت تلوح في افقها ملامح الديمومة  والاستمرارية التي قد تجر معها السعودية ودول الخليج ومصر الى منزلق تاريخي  يعيد العروية والعرب  أجمعين الى عصر النوق وملاحم البسوس.


ملامح الخطر هذه المرة يكمن في نفس السيناريو اليمني التاريخي المعروف والمشهود له بالتفرد. فالقبائل الجمهوريين الذي احتضنوا الجيش المصري هم الذين اجهزوا عليه واليسارين والقوميين الذي يمننوا الجنوب العربي  وصوروا بانه منارة لكل حركات التحرر العربية وباني اليمن الديمقراطي الثوري التقدمي,  هم الذي جروه الى الشراك ثم انقضوا عليه ومزقوه وهم نفس القبائل المنشقين على قافلة عفاش اليوم والمناوئين للحوثين  الحاجون الى بيت الله الحرام. انهم السم القاتل والزيت الدافق الذي يمد نار الحرب بالطاقة حتى لا تنطفئ .


اليمن الاعلى قبائل لا تعرف للوطنية والمدنية والدولة طريقا الى عقولهم. اليمن الاعلى ثقافة فيد تعيش اليوم عصرها الذهبي في ظل هذا الدمار المخيف الذي فتح لهم خزائن هارون الرشيد  وقفز بأسعارهم في سوق الارتزاق الى ارقام خرافية تتجاذبهم العروض من كل حدب وصوب ايرانية  وروسية وامريكية وبريطانيا وخليجية  ولامحالة ستلحق  بها امم اخرى هي في سوق  الحراج (الاوكشن).


كم اشفق على بعض المنظمات الانسانية التي بحت اصواتها مناشدة لإنقاذ اليمن من هذا الدمار المخيف والمأساة الانسانية ولا تدرك  ان الحروب والنزاعات هي اكثر المهن ازدهارا في اليمن.. اخشى ان يكون العالم قد صدق الكذبة الكبرى بان اليمن بلد الحكمة والإيمان.. الم يقرأوا ان اليمن فيها اكثر من ستين مليون قطعة سلاح .. وهل يشتروها ليصطادوا بها الطيور والأرانب . من يدري !! وربما صدقوا المقولة التي رددتها عصابات صنعاء حول ما سموها بالمعادلة الصعبة بانتشار هذا الكم من السلاح وعدم انتشار النزاعات المسلحة بل ان الكثير من  السذج العرب دعوا الى تطبيق النموذج اليمني في معالجة مسألة الصراع على السلطة. وقف الحرب بالنسبة لقبائل اليمن الاعلى يعني الموت جوعا , خاصة وان الفريسة هذه المرة هي الدويلات الخليجية المترفة والمهددة بالمخاطر والطامعين بها من الفرس والأتراك والامريكان وغيرهم كثيرين.


بقي ان نقول اننا نقف جميعا كعرب امام مفترق طريقين تاريخيين لا ثالث لهما. اذا لم تتحسس عاصفة الحزم والمملكة السعودية  مكامن الخطر وتستوعب قواعد اللعبة اليمنية المعقدة فلن تكون افضل حال من مصر وتركيا وحتى الجنوب العربي. وان هي استوعبت دروس الماضي فإننا اليوم امام مهمة تاريخية تتمثل في اجتثاث اكوام التخلف والمرض المزمن المستوطن في اليمن لألف ومائة عام لان  الجنوب العربي  بمقاومته الباسلة مازال حي يرزق يتصدى فرسانه لجحافل الغزاة ويقف لهم عند كل مرصد وهو اليوم يضع نهاية لتاريخ هؤلاء الهمج  اذا لم تخذلنا عاصفة الحزم وتنطلي عليهم أكذوبة المقاومة الشعبية في اليمن الاعلى واليمن الاسفل ( المدجّن والمستعبد) على حد سواء.


ومع كل هذا لا يكفي ان ننتصر عليهم عسكريا  فإن المرض سيبقى في اليمن الاعلى كامنا يهدد كل المنطقة بالوباء والفناء  لذا فإن العلاج  الشاف يستدعي معالجة مشكلة الحياة بالنسبة لهذه القبائل لذا فإنه يقع  عاتق الخليجيون والسعودية واجب التضحية ولو بنصف اموالهم ثمنا للسكينة وفداء لأرواحهم.

آخر تحديث الخميس, 28 مايو 2015 21:25