الأخ الأكبر في حياة الجذور - بقلم : د\محمد فتحي راشد الحريري طباعة
مقالات - صفحة الدكتور/ محمد فتحي راشد الحريري
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS   
الخميس, 30 أبريل 2015 11:57

الأخ في لغة الجذور تكون اسما وفعلاً واسمَ فعل ٍ  :

أ خ ا : فالأخُ أصله أخو بفتح الخاء لأنه يجمع على آخاء ٍ مثل آباءٍ والذاهب منه واو لأنك تقول في التثنية أخوان وبعض العرب يقول أخان على النقص ويجمع أيضا على إخْوان مثل خرب وخربان و الخرب ذكر

الحبارى وعلى إِخْوَة بكسر الهمزة وضمِّها أيضا على رأي الفراء ، وقد يُتَّسع فيه فيراد به الاثنان كقول الله تعالى : { فإنْ كان له إخوةٌ فلأمِّهِ السُّدُس منْ بعدِ وصيّة يوصِي بها أو دَيْن} سورة النساء\11، وأكثر

ما يستعمل الإخْوانُ في الأصدقاء والإخْوةُ في الولادة والنسب ،وقد جمع أيضاً بالواو والنون،قال الشاعر:

وكان بنـو فـزارة شـرَّ قـومٍ ***وكنت لهم كشرِّ بني الأخينا

و أخٌ بين الأُخْوَةُ و أُخْتُ بين الإخوة أيضاً ، و آخاهُ مُؤَاخاةً وإخاء والعامة تقول وأخاه و تآخَيَا على تفاعلا و تَأخَّيْتُ أخا أي اتخذت أخاً ، و تَأَخَّيْتُ الشيءَ أيضاً مثل تحرَّيْتُه ، و الآخِيَّــــةُ بالمدِّ والتشديد واحدة

الأَوَاخِي ، وهو مثل عروة تشد إليها الدابة ، وهي أيضا الحرمة والذمَّة، تقول لفلان أَواخِيُّ وأَسْبابٌ تُرْعى وفي حديث عُمر أَنه قال للعباس أَنت أَخِيَّةُ آباءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَراد بالأَخِيَّةِ البَقِيَّةَ، يُقال

له عندي أَخِيَّة أيب ماتَّةٌ قَوِيَّةٌ ووَسِيلةٌ قَريبة ،كأنه أراد أَنت الذي يُسْتَنَدُ إليه من أَصْل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُتَمَسَّك به ،وقوله في حديث ابن عُمر يتأَخَّى مُناخَ رسول الله أي يَتَحَرَّى ويَقْصِد ويقال فيه

بالواو أيضاً وهو الأَكثر، قلت : ولعل منزلة الأخ الأكبر متحصِّلة من كونه يُتَّبع ويُقتدى به ويُتَحرّى كالأب تماما في إدارة الأسرة ، فكم من موقف شُهِر به الأخ وقصده أخوته ورأوا أنه يمثِّل فيها القيادة الأبوية .

وفي حديث السجود الرجل يُؤخِّي والمرأَة تَحْتَفِزُ ،أَخَّى الرجلُ إذا جلس على قَدَمه اليُسرى ونَصَبَ اليُمْنى. قال ابن الأَثير الجزري :هكذا جاء في بعض كتب الغريب في حرف الهمزة قال والرواية المعروفة إنما

هو الرجل يُخَوِّي والمرأَة تَحْتَفِزُ والتَّخْويةُ أَن يُجافي بطنَه عن الأَرض ويَرْفَعَها.

و(أخو) من الأسماء الستة التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء ، فتقول :

هذا أخوك ،  وأكرم أخاك ، ورفقاً بأخيك .

وكلمة( أخْ) من حرفين اسم فعل بمعنى أتوجع وأتأوّه . وهو إشارة إلى مكانة الأخ عند الأجداد ، وفي هذا يقول  الشاعر :

أخاكَ أخاك ، فإنَّ من لا أخـاً له *** كساعٍ إلى الهيجـا بغير سلاحِ

 وقد مـرَّ بي حديث شريف هو  الداعي لهذا المقال ، ونصُّـه التالي : (الأخ الأكبر بمنزلة الأب ) .
 وكان سيدي الوالد رحمه الله ، يستدل به في معرض تقديمي على أخوتي ، كوني أكبرهم سناً .
 وبالبحث عن الحديث  وجدت أنه قد أخرجه الطبراني في الكبير عن كليب الجهني، برقم (13438) وابن عَدِيّ في الكامل ، والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن العاص ، ونصّه : (حق كبير الإخوة

على صغيرهم كحقّ الوالد على ولده )، ورواهُ ابن قانع ، وغيرهم ، وفي إسناده الواقدي .
 لكن هل معنى الحديث صحيح ؟

 قال الإمام المناوي رحمه الله ، في التيسير بشرح الجامع الصغير :
(الأكبر من الأخوة بمنزلة الأب ) في الإكرام والإحترام والرجوع إليه والتعويل عليه وتقديمه في المهمات والمراد الأكبر ديناً وعلماً ، وإلا فَسِنَّاً . فما بالك لو كان الأكبر سِـنَّاً أكبر دينا وعلماً وخُلُقاً !

والأخت الكبرى أيضاً لها مكانتها في المجتمع العربي ، فيُنظَر إليها بمنزلة الأم .

وهذا من رُقِي منهج الإسلام إذ ينظم العلاقة بين الإخوة ؛ فيجعل للأخ الأكبر( بِـكْر أبيه) أو الأخت الكبرى  احترامًا ومنزلة وحقًّا كحق الوالد أو الوالدة أو قريبًا منه، ذلك أن الأخ الأكبر له دور في رعاية إخوته

الصغار؛ سواء في حياة والده أو بعد مماته، وحتى تنتظم الحياة بلا صراع ولا مشكلات ، كان التوجيه النبوي ّ العظيم لتنظيم علاقة الإخوة ببعضهم .

إنَّ (الاحترام) قيمة رائعة تجعل للحياة روحًا وقيمةً ونظامًا راقياً ، وهذه القيمة كطبيعة كل القيم يجب أن تكون ثابتةً ومستقرةً ودائمةً، ولا تتغير بتغير الزمن أو الظروف والأحوال، بل يجب أن يكون الالتزام بها

سلوكًا طبيعيًّا، يحرص الجميع عليه برضاء نفس وطيب خاطر وبنيّة التعبد لله تعالى؛ فتكون النتيجة رقي السلوك وتحضّـر صاحبه وعظم الأجر والثواب .

وبالعودة إلى حياة الجذور من أجدادنا نجد أنَّ الأخ الأكبر له منزلته السامقة ، حتى قبل الإسلام ، فكان هو الوارث الوحيد لثروة الوالد غالباً ، بل  كان في الجاهلية يرث زوجات أبيه ( ما عدا أمه ) وهو ما عُـرِف

َ بنكاح المقت الذي حرَّمه الإسلام وندّد  به .

وفي البادية نجد أنَّ منزلة الأخ الكبرى لا تزال متألِّقة وتتسامى ولا يجوز أن ينازعه أحدٌ عليها  ، فالإذن بصناعة القهوة حقٌّ لا يمنحه الأب إلا لولده الأكبر ، وإذا ما أرادت الأسرة أن تتخذ قراراً ما  فإنَّ الرأي

المعوّل عليه والمقدم عادة هو رأي أخيهم الكبير ، وهناك عبارة تتردد في مجالس البادية وديوانياتهم وهي قولهم ( شوفوا أخاكم العود ) أي استمزجوا واستنكِهوا  رأيَ أخيكم الأكبر .

وبالابن الأكبر يكتني الأب ، فجدُّ رسول الله ( عبد المطلب) يكنى بأبي الحارث ، والحارث هو الان الأكبر ،

وجرت عادة الملوك والأمراء والحكام أن يرشِّحوا  الابن الأكبر لوراثتهم في الحكم ،هو ما حدا بسيدنا معاوية  لترشيح ولده يزيد وريثاً له في الخلافة الأمويّـة ، وتابعه سائر الخلفاء من بعده .

واذا ما أراد أحد الأخوة أن يزوِّج أحدَ أبنائِه أو بناته فالرأي الأول للأخ الأكبر ، وفي بيته تتم المراسم ومن بيته تُزَفُّ العروس توقيراً له واعترافاً بمنزلته الاجتماعية والدينية .

وعادة ما يقدِّم الأخوة أخاهم الأكبر في الحديث ، وفي نوال أفضل حصّةٍ إرثيّـة عند اقتسام التركة بعد وفاة أبيهم ، ويقدِّمونه بإبداء الرأي ، ويحتكمون إليه في قضاياهم ويستشيرونه منتفعين بخبراته التراكمية ،

عملاً بالقاعدة الشعبية " أكبر منك بيوم أعلم منك بسنةٍ " !

البيئة العربية تقرُّ بالفروق العُـمُـريّـة ، وتأمر باحترام الأخ الأكبر وإنزاله المكانة اللائقة ، ولذلك أسبابه الموضوعيّـة التي يمكن إدراجها في الآتي :

أولا – ما تقدّم من أحاديث يرفعونها للنبي الأعظم .

ثانيا – ما توارثوه من إكرام الكبير عموما وتوقيره واحترامه .

ثالثاً –الأخ الأكبر عادة يضحي بكثير من أوقاته لأجلهم ، وقد ضحَّى فعلا بزهرة العمر متعاوناً مع الوالد لتنشئة أخوته ، وتعاون مع الأب في إدارة دفّــة الأسرة وكسب قوتها وعيشهــا .

رابعاً – للأخ الأكبر دور بارز في الريادة ، والريادة أسلوب حياةٍ في البداوة ، يعني البحث عن مواطن الكلأ والانتجاع والماء ، فالولد الأكبر هو من يقوم بهذه الأعباء ويرجع إلى العائلة فيقودها إلى مواطن

عيشٍ أفضل بعد البحث والمعاناة ، والوالد لا يبعث للريادة إلا ابنه الأكبر ، ويستحيل أن يبعث غيره إلا على سبيل التعلم والمِران والتدريب .

خامساً - للولد البكر مميزات رائعة أهمها الشعور بالمسؤولية، فهو يتعلم منذ الصغر تحمل المسؤوليات .

الولد الأكبر امتداد شخصية الأب ، فهو الذي يُقري الضيف ويتصرف ويسعى ويكسب ويرعى ويتاجر ويتصرّف في غيبة الأب ، بل لربما كان الولد الأكبر آخر من يشبع وأول من يجوع وينصب ويتعب في سبيل

أن يعيش أخوته حياةً آمنة كريمة بعيدة عن المنغِّصات !

ولئن بالغت بعض الشرائع في محاباة الابن الأكبر في حقوقه وميراثه ( كما في الشريعة اليهودية التي تمنح الابن الأكبر ضعف غيره في الإرث ، وكثير من شرائع أوروبة الوضعية الحالية يفعل هذا ) إلا أن

الإسلام يؤكد وجوب تحقيق العدالة بين الأخوة حتى لا تتقطع الأرحام وتنتشر البغضاء والأحقاد بين الأخوة ( حديث : اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم ) ، فالإسلام الذي يأمر بالعدل والإحسان يوجب أن نسدِّد

ونقارب ، فالعدل أن نعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، والإحسان أن نساير الأكبر ونمنحه بعض الامتيازات وفاءً لدوره ، في التعاون مع الأب بإدارة العائلة ،

ووفاءً لتضحياته السابقة في الأيام الخالية ، فنكون قد أمسكنا بالعصـا من منتصفها ، لا إفراط ولا تفريط !

وبحكم مكانتي الاجتماعية كنت أتعرّض كثيراً لخلافات أخوةٍ ، أُدْعى للمصالحة بينهم فأشير إلى هذه الموروثات الجذورية والقيم الاجتماعية فأجد غالبــاً آذانا صاغية وعقولاً واعية تستجيب لنداء العقل وتتنازل

عن كثير من مصالحها إكراما للأخ الأكبر ، بل يقوم الأصغر عادة بتقبيل لحية الأكبر أو يده أو رأســه ، مقدِّماً أرق وأعذب ألفاظ الاعتذار وكأنه يتعامل مع أبيه ،وأحياناً نُفاجــأ  بأخٍ أرعن لا يقيم وزنا للأعراف

الجذورية تلك  ، والنتيجة حيازتـه كراهية الناس له وقطيعة الرَّحـم !

ومن تجارب أعلامنا وعلمائنا الكبار نلاحظ أن للأخ الأكبر دورا عظيما لا يمكن إغفاله أو تجاهله ، فالصحابي الجليل جابر بن عبد الله ( بِكْر أبيه) تولّـى تربية أخوته بعد استشهاد أبيه ،وابن كثير البصروي

الدمشقي ، العالم المحدث المفسِّـر يحدثنا بزهوٍ عن دور أخيه الأكبر الذي كان لهم أبا محبّا مشفقا ، والشاه رفيع الدين الدهلوي(1163-1233 هـ ) ربّاه أخوه الأكبر شاه عبد العزيز ، وهو الشيء نفسه

الذي لمسته في حياة أستاذنا الشيخ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي وكيف يثني على دور أ.د. وهبــة الزحيليّ ( شقيقه الأكبر) ، وفي سيرة الأخوين الأديبين السعوديين علي وعثمان حافظ (الأكبر هو عليّ )

وأحيانا قد نجد حالات فردية سلبية، وفيها يتراجع دور الأخ الأكبر بسبب عاهةٍ أو جهل !

أما دوري أنا في تنشئة أخوتي الأحبة، وأنا كبيرهم فمما لا أحبُّ الحديث عنه خشية تزكية النفس ، ولا أحبُّ أنْ أزكي على الله أحدا حتى لو كانت نفسي !

وما قدَّمناه عن دور الأخ الأكبر يؤكد مدى اهتمام العرب بإقامة شبكة من القيم ، أو منظومـة قِيَميّة أثيلة تعزز بنية المجتمع وتسمو به إلى مراقي الفلاح  والسؤدد ، يستلهمون ذلك من جذورهم .وهناك قصص

معروفة يتداولها الناس عن تضحيات الأخ الأكبر لإسعاد أخوته ، وحرمان نفسه بل وعيشه حياة العوَز وذلك لإدخال السعادة على قلوب أخوته الأصغر منه سِـنَّاً ، قصص وأمثلة لا ينكرها إلا قساة القلوب ،

وأبرزها : قصة الشيخ شالح بن هدلان الخنفري من قبيلة قحطان ، و أخوه " الفديع " الذي كان له أبا .

وهو الأخ الأكبر وكلٌّ منهما كان مضرب المثل في الوفاء، ولما قتل الفديع قال فيه أخوه شالح :

ليته كفانـي سـوء بقعــــا ولامـات***وانـا كفيتـه سُـو قبـرٍ هيـالـــــي

وليته مع الحييّن راعـي الجمـالات***وانـا فدالـه مـن غبـون الليالـي

واخوي ياللي يوم الاخـوان فـلات***من خلقته ماقال : ذا لـك وذا لـي

وأنتم يا رعاكم الله ، تخيلوا شقيقا يهجر شقيقه الأكبر ،وأمُّهم واحدة وأبوهم واحد ! لماذا ؟ لأجل الفلوس
 ومتاع الدنيا . فهل يمكن أنْ يأتيَ الفديع من جديد أمْ أنَّ احترام الأخ الأكبر ووضعه مقام الأب قد انتهي عند  بعض الناس بانتهاء عهد السلف الصالح