مكتبـة سربستي .. صفحة مشرقة من تاريخ أربيل الثقافي - بقلم - جــودت هوشيار |
مقالات - صفحة الدكتور / جــودت هوشيار |
نشرها صبرنيوز - SBR NEWS |
الخميس, 17 مارس 2016 05:38 |
متاجر الكتب ، أو المكتبات ليست محلات تجارية وحسب ،بل تلعب ايضاً دوراً تنويريا مهماً بتوفيرها الكتب والمطبوعات الأخرى ، التي تعد المصدر الأساسي للمعرفة والثقافة .وكلما زرت بلدا جديدا احرص أن أجول داخل متاجر الكتب فيها .والتي تشغل أحياناً بنايات كبيرة ، وبعضها متعددة الطوابق ، وذات تصاميم وديكورات فنية رائعة ، تحوي عشرات الألوف من العناوين ، المرتبة حسب الحقول المعرفية ، وبعضها يحتوى على مطعم أو مقهي ، وفيها مقاعد وأرائك للجلوس وتصفح الكتب من قبل الزبائن قبل اقتنائها ، وقد جهزت هذه المكتبات في الآونة الأخيرة باجهزة رقمية ، تستطيع من خلالها البحث عن الكتاب المنشود، فتحصل على نتيجة البحث على الفور . فأن كان الكتاب موجوداً ، ترى على الشاشة خريطة المكتبة والقسم ورقم الرف الذي يوجد فيه الكتاب المطلوب . وثمة مكتبات لا تقل أبهة وان كان اصغر حجما ومتخصصة في حقل معين من حقول المعرفة ( الطب ، الهندسة ، العلوم الصرفة ، الفن ... الخ ) . اجواء هذه المكتبات رائعة ، حيث عبير الكتب الفواح وشذى أصص الورد العبقِ ، وتشعر فيها بعظمة العقل الأنساني وأنت تمشي بين رفوف الكتب وتتطلع اليها بحثأ عما يروق لك .
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة في البلدان المتقدمة ما يسمى بالتسوق الألكتروني ، حيث توجد الكثير من المكتبات الألكترونية التي تستطيع من خلالها شراء الكتاب - أي كتاب – لتصلك بعد بضع ساعات أو أقل اذا كنت في المدينة ذاتها . ربما سأنسى يوماً ما ، أسماء هذه المكتبات – الحقيقية منها والأفتراضية - ولكني لن أنسى ما حييت إسم مكتبة " سربستي " ، العزيزة على قلبي وروحي ، أتذكرها كلما مددت يدي الى احد رفوف الكتب في مكتبتي المنزلية ، لأتناول كتاباً قديما وثمينا اقتنيته من هذه المكتبة الصغيرة مساحةً ، والكبيرة دوراً وتأثيراً في الحركة الثقافية في اربيل خلال خمسينات القرن الماضي ، أقول الخمسينات ، لأن ما سأتحدث عنه في الفقرات اللاحقة يرجع الى الفترة بين عامي (1954-1959 ) حيث سافرت في أواخر عام 1959 الى الخارج في بعثة دراسية ، وأنقطعت أخبار المكتبة عني . كانت مكتبة " سربستي " لصاحبها الطيب الذكر ، رؤوف معروف لا تزيد مساحتها على عدة أمتار مربعة ، ولكنها كانت مركز الأشعاع الفكري والثقافي في مدينتنا العريقة أربيل ، خلال أواخر العهد الملكي وأوائل عهد ثورة 14 تموز . " سربستي " فتحت لنا بابا رحباً الى عالم العلوم والثقافة. هذه المكتبة كانت جامعتي الأولى وجامعة معظم مثقفي أربيل في تلك الفترة . الدور الثقافي والوطني لمكتبة " سربستي " : تأسست المكتبة عام 1947 ، وكانت تقع مقابل مطبعة " كيو مكرياني " في قلب المدينة. وأول مكتبة في أربيل يحمل اسماً كورديا بالغ الدلالة ، يعبر عن طموحات الشعب الكوردي الى الحرية .صحيح ان هذه المكتبة لم تكن الأقدم عمراً في أربيل ، فقد كانت ثمة عدة مكتبات أخرى ، بعضها أسبق منها ، مثل مكتبة " هولير " لصاحبها شيخ محمد المعروف ب "شيخه شه ل" وكانت متخصصة في بيع الصحف اليسارية والأصدارات الماركسية وتشغل دكانا أو ركنا صغيرا مستقطعا من أحد الدكاكين الملاصقة لبدن القلعة وأعتقد أنها كانت اشبه بوكر – تحت يافطة مكتبة - للحزب الشيوعي السري المحظور في العهد الملكي، اكثر من كونها مكتبة بالمعنى المعروف لهذه الكلمة . ومكتبة”العسكري" لصاحبها الضابط المتقاعد” فاروق عبد الرحمن ، ومكتبة”الجهاد“ لصاحبها عبد الوهاب الصائغ ، وهو من اهالي الموصل ، ومكتبة الأخوة الأسلامية - المقر المقنّع لتنظيم " الأخوان المسلمين " – حيث كنت تجد فيها كتب حسن البنا وسيد قطب ومنظري التنظيم الآخرين . هذه المكتبات الأربع الأخيرة لم تنهض بدور يذكر في اجتذاب المثقفين بالمقارنة مع مكتبة " سربستي " ذات الشهرة المدوية ، بفضل صاحبها ، الرجل الذكي، والنشيط في توفير ما يلبي حاجة القراء حقاً وبسرعة يحسد عليها ، كان يمكنك اقتناء كتب المؤلفين العراقيين والصحف والمجلات العراقية في اليوم التالي لصدورها ، والمطبوعات المصرية واللبنانية بعد بضعة أيام ، وكان عدد المشتركين في الصحف والمجلات عن طريق " سربستي " كبيرأً. " سربستي " كانت سباقة في عرض آخر الأصدارات الكوردية من كتب ومطبوعات دورية -على قلتها في ذلك الوقت- ومنها دواوين الشعراء الكورد " حاجي قادر كويي ، بيره ميرد ، دلدار ، بي كه س ، كوران ، هردي ، " وبعض الصحف الكردية مثل " زين " الصادرة في السليمانية .. " سربستي " كانت قبلة المثقفين في أربيل . ففيها كنت تجد آخر الأصدارات من الكتب العربية ( العراقية ، المصرية ، اللبنانية ) لمؤلفين مشهورين مثل العقاد ، والمازني ، وطه حسين ، وسلامة موسى ، ونجيب محفوظ ، ومحمود تيمور ، وميخائيل نعيمة ، والشعراء شوقي ، والجواهري ، واحمد ناجي ، ومحمود طه المهندس ، والرصافي ، والزهاوي ... والقائمة تطول ) . وكان صاحب المكتبة يضع الأصدارات الجديدة على واجهة المحل . كما كانت المكتبة بمثابة الموزع الرئيس للمجلات الثقافية العربية مثل ( الهلال ، الثقافة ، الرسالة ) المصرية ، و( الآداب ، الأديب ، الطريق ) اللبنانية ، ( والثقافة الجديدة قرندل ، الوادي ) العراقية وكذلك المجلات المصرية العامة والفتية مثل ( روز اليوسف ، آخر ساعة ، المصور ، الأثتين ، الكواكب ، حواء ) وبعض المجلات الطبية مثل مجلة ( طبيبك ) السورية والعلمية مثل مجلة ( العلوم ) اللبنانية وغيرها . كان صاحب المكتبة رجلاً وطنيا ، ولم يكن من السهل عليه الحصول على رخصة للمكتبة بهذا الأسم في زمن كان النظام الملكي يضيق الخناق على المطبوعات الكوردية من كتب ومجلات وجرائد . واسم المكتبة يدل على اتجاه صاحبها السياسي ، لذا كانت تحت رقابة أجهزة الأمن ، خاصة ، انه كان الموزع الرئيسي لصحف الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها جريدة " الأهالي " الناطقة بأسم الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة المرحوم كامل الجادرجي . وقد تعرضت " الأهالي " للحجب والألغاء عدة مرات . وكان الجادرجي يلجأ في كل مرة الى طلب الحصول على امتياز جديد للجريدة تحت اسم آخر قريب من اسم الجريدة الملغاة ( صوت الأهالي ، صدى الأهالي ) وتعاود الصدور من جديد . وكانت الرقابة في بغداد تحذف أحياناً بعض مواد الجريدة ، مثل المقال الأفتتاحي ، ولكن الجريدة تترك المساحة التي كانت تشغلها تلك المواد فارغة بيضاء ، كشكل من أشكال الأحتجاج على الرقابة الحكومية . أجهزة الأمن في اربيل كانت تراقب المكتبة عن كثب لتحديد من يشتري الصحف اليسارية يوميا . والى جانب هذه الجريدة كانت هناك جريدة الزمان الرصينة ، وجريدة ( الشعب ) الموالية للحكومة . ولكن اغلب المثقفين في أربيل كانوا يتابعون بشغف ما تنشره جريدة الجادرجي ، الذي كان دائماً الى جانب الشعب الكوردي في النضال من اجل حقوقه القومية المشروعة . وتمتاز " سربستي " بميزة أخرى ، لم تستطع أية مكتبة أخرى في أربيل مجاراتها ، وهي انها كانت تقوم بتوصيل الصحف والمجلات للمشتركين سواء في أربيل أو ضواحيها وفي تلك السنوات رأيت السيد صالح – شقيق صاحب المكتبة – وهو يتنقل بين مصايف أربيل لأيصال المطبوعات الى المشتركين أو بيعها ، خاصة في شقلاوة خلال فصل الصيف حيث كان هذا المصيف الخلاب تزدحم بالمصطافين من الموصل وكوكوك وبغداد والمدن الأخرى . كانت المطبوعات من كتب ومجلات شهرية أو أسبوعية وصحف يومية تصل أربيل عن طريق خط قطار (بغداد – كركوك – أربيل) في حوالي الساعة العاشرة من صباح كل يوم ، وكنت ترى المثقفين الشغوفين بالقراءة أو متابعة الأحداث السياسية يتجمعون أمام مكتبة سربستي ويبلغ الزحام اشده في حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا ، حين يصل السيد صالح ، قادما من محطة القطار ومعه رزم الكتب والمجلات والصحف الصادرة حديثاً. فترى القراء يتسابقون الى أقتناء ما يعجبهم من هذا الغذاء الروحي الدسم . كنت في هذه المرحلة في المدرسة الثانوية ، وأحرص على اقتناء ثلاث مجلات هي الآداب اللبنانية والهلال المصرية والثقافة العراقية ، اضافة الى اصدارات دار الهلال الأخرى مثل سلسة ( روايات الهلال ) ، وما زالت اعداد هذه السلسلة في مكتبتي الشخصية أحتفظ بها ليس لمجرد الذكرى ، بل لأنها تضم خير ما في الأدب العالمي من روايات وقصص بشهادة الزمن .كما تمتاز ترجمة هذه السلسلة بمستوى رفيع ، يفتقر اليه من يتصدى لترجمة الروايات والقصص الأجنبية في أيامنا هذه . القراءة بين الأمس واليوم : تصدر في اقليم كوردستان اليوم مئات الكتب باللغة الكوردية سنويا في شتى حقول المعرفة ، والأدب والفن ، إضافة الى مئآت المطبوعات الدورية ومعظمها باللغة الكوردية أيضاً ، وفي العاصمة أربيل وحدها عشرات المكتبات ( متاجر الكتب ) الزاخرة بالأصدارات الحديثة ذات الطباعة الفاخرة ، ولكن هذه المكتبات تشكو من قلة روادها وشحة مبيعاتها ، رغم أن اسعار الكتب في أربيل - وخاصة اصدارات دور النشر الحكومية أو شبه الحكومية أو الصادرة عن المنظمات والجمعيات والأتحادات وبضمنها أصدارات الأكاديمية الكوردية واتحاد الأدباء الكورد – زهيدة بالقياس الى الدول المجاورة ، الا أن الأقبال على القراءة ، أضعف مما كان في الماضي . وقد يبدر الى الذهن أن السبب يعود الى الأزمة المالية التي يمر بها الأقليم . ولكني أعتقد أن السبب الرئيسي لا يكمن في القدرة المالية للقراء بقدر ما يعود الى توافر وسائل الأعلام المختلفة ، الأكثر تشويقاً وجذباً وخاصة لفئة الشباب ( الأنترنيت ، القنوات الفضائية ) ووسائل التسلية والترفيه العديدة . كما أن الحياة المعاصرة وتعقيدها ،التي تتسم بدرجة عالية من التوتر النفسي والأجهاد العصبي لا تترك فسحة كافية من الوقت للقراءة الجادة - الوسيلة الفعالة لأكتساب المعرفة وتحصيل الثقافة - وبأستثناء القيصرية الخاصة بالمكتبات في سفح قلعة أربيل التأريخية ، قلما تجد من يرتاد المكتبات الأخرى ( مقابل المدرسة الأيوبية ) أو يتابع صدور هذه المجلة أو تلك ، ربما بأستثناء مجلة " صوت الآخر " التي تنفد أعدادها من السوق فور طرحها للبيع في أربيل أيام الخميس . وهذه ليست مجاملة للمجلة التي أنشر فيها مقالاتي ، فأنا لا آجامل أحداً على حساب الحقيقة . وعلى الجملة يمكن القول أن معظم رواد قيصرية المكتبات اليوم هم من الكتاب والشعراء والأعلاميين أنفسهم ، على النقيض من جيل " سربستي " الذي كان يبحث عن الغذاء الروحي والثقافي ويتابع بشوق ولهفة كل اصار جديد في المجال الذي يستهويه ، دون أن يفكر يوما بالكتابة والنشر ، الا ما نذر . الظاهرة التي أتحدث عنها لا تقتصر على اقليم كردستان ، بل هي ظاهرة عالمية الى هذا الحد أو ذاك . المثقفون الأحياء من الجيل القديم – أطال الله أعمارهم – خريجي جامعة " سربستي " هم اليوم قلة نادرة ، يلوذون بصومعاتهم وينهلون من عصارة عقول عظماء الفكر والثقافة . هل ثمة زاد أثمن من هذا الغذاء الروحي ؟ |